مصر
عبد الرحمن جمعةمستشار أول، حل المنازعات والتقاضي
دخول الكيانات الاقتصادية متعددة الجنسيات في علاقات تعاقدية مع الشركات المصرية ظاهرة قائمة، تشجعها الدولة وتحرص على إنمائها لما لها من مردود إيجابي على الاقتصادي المصري. فهذا الاستثمار يثمر فرص عمل للشباب، وينتج عنه تدفق للعملات الأجنبية.
وبين التشجيع على الاستثمار الأجنبي والحرص على مصلحة الشركات المصرية، تظهر الحاجة إلى النظر في القوانين المرتبطة بهذا الموضوع، لاستظهار مدى كفايتها لتحقيق هذا الغرض. ومن ضمن المسائل القانونية الهامة التي تثار في هذا الشأن هي مدى جواز اتفاق أطراف التعاقد على سلب الاختصاص من المحاكم المصرية لصالح محاكم دولة أخرى في عقود التجارة الدولية. وهي مسألة من مسائل القانون الدولي الخاص، التي تثار في هذه النوع من العقود.
وسببها حرص بعض الشركات الأجنبية على إخضاع هذه العلاقة العقدية لقانون دولة أجنبية، والنص على اختصاص قضاء دولة أجنبية بأي نزاع قد ينشأ عن هذا التعاقد.
ومسألة جواز الاتفاق على قانون حاكم للعقد سوى القانون المصري، مسألة ليست محل خلاف، حسمتها المادة (19) من القانون المدني المصري رقم 131 لسنة 1948 والتي تنص على أن " 1- يسري على الالتزامات التعاقدية، قانون الدولة التي يوجد فيها الموطن المشترك للمتعاقدين إذا اتحدا موطناً، فإن اختلفا موطناً سرى قانون الدولة التي تم فيها العقد. هذا ما لم يتفق المتعاقدان أو يتبين من الظروف أن قانوناً آخر هو الذي يراد تطبيقه. 2- على أن قانون موقع العقار هو الذي يسري على العقود التي أبرمت في شأن هذا العقار."
وبهذا تكون المادة (19) أرست قاعدة جواز الاتفاق على قانون غير القانون المصري إذا تغاير موطن أحد أطراف العقد، وتفصيل أحكام هذه القاعدة وبيان شروطها، وإيراد استثناءاتها يخرج عن نطاق هذا البحث. وهذا الموقف الواضح من المشرع المصري في منح أطراف التعاقد الحق في اختيار القانون الحاكم للعقد، لا نجد مثله في أحقية الأطراف في الاتفاق على اختصاص قضاء غير القضاء المصري لنظر النزاعات التي قد تنشأ عن هذا العقد.
إذ أن القانون المصري خلا من حكم صريح في هذه المسألة، مما نتج عنه خلاف فقهي وقضائي، مما كان له تأثير سلبي على هذا النوع من العقود. إذ أن أطراف التعاقد يتعذر عليهم استشراف الأثر القانوني لمثل هذا الاتفاق إذا عرض على القضاء المصري، وهذه الضبابية قد يترتب عليه احجام المستثمر الأجنبي، وارتياب الشركات المصرية.
وسبب الخلاف الجوهري يرجع إلى مدى اعتبار قواعد الاختصاص القضائي الدولي من النظام العام، فهناك من ذهب إلى أن هذا الاختصاص من النظام العام، على أساس أن أداء العدالة هو وظيفة من وظائف الدولة التي تباشرها بواسطة سلطة من سلطاتها هي محاكمها، وهو يهدف إلى تحقيق مصلحة عامة تتمثل في إقرار النظام والسكينة في إقليم الدولة([1]).
وتأثر أصحاب هذا الرأي بالمادة (2) من قانون المرافعات الإيطالي والتي ذهبت إلى عدم جواز مخالفة قواعد الاختصاص الدولي للمحاكم الإيطالية. وتأثروا كذلك بما جاء في المذكرة الايضاحية لقانون المرافعات المصري رقم 13 لسنة 1968 والتي جاء فيها أن المبدأ العام السائد في فقه القانون الدولي الخاص هو اقليمية الدولة، والمشرع راعى أن تؤدي الدولة العدالة في اقليمها ([2]).
وفي المقابل، ذهب البعض إلى أن القواعد المنظمة للاختصاص الدولي للمحاكم المصرية لا تتعلق كلها بالنظام العام، فهناك حالات الاختصاص الوجوبي وهي تتعلق بالنظام العام مثل الاختصاص المبني على موطن أو محل إقامة المدعي، والاختصاص في مسائل الأموال والالتزامات والافلاس والإرث، والاختصاص في مسائل الإجراءات الوقتية والتحفظية. وهناك حالات الاختصاص الجوازي والتي لا تتعلق بالنظام العام مثل، الاختصاص المبني على جنسية المدعى عليه، والاختصاص المبني على الخضوع الاختياري، والاختصاص بالدعوى المرتبطة ([3]).
ولا غرو في أن المشرع جعل من إرادة الخصوم ضابطاً للاختصاص القضائي للمحكم المصرية ([4])، إذ أن المادة (32) من قانون المرافعات ([5]) أجازت للخصوم مكنة الخضوع الاتفاقي للمحاكم المصرية ولو لم تكن مختصة أصلاً بنظر النزاع، إذا قبل الخصم ولايتها صراحة أو ضمناً.
وما وقع من خلاف في الفقه وقع مثله في القضاء، فقد تباينت أحكام محكمة النقض حول هذه المسألة بين مانع ومجيز. فقد قررت محكمة النقض في الطعن رقم 7342 لسنة 83ق الصادر بجلسة 26 يناير 2016، عدم جواز الخروج عن اختصاص المحاكم المصرية فقضت بأن " المقرر - في قضاء محكمة النقض - أن المشرع اعتبر قواعد الاختصاص الدولي للمحاكم المصرية سالفة البيان من النظام العام تقضي بها المحكمة من تلقاء ذاتها، وذلك لتعلقها بالتنظيم القضائي للدولة واستهدافها تحقيق مصلحة عامة هي تحديد ولاية القضاء المصري في مواجهة السلطات القضائية للدول الأخرى، وإذا كان المشرع قد مد اختصاص المحاكم المصرية إلى دعاوى لم تكن داخلة في اختصاصها إذا قبل الخصم ولايتها صراحة أو ضمناً، فجعل القبول ضابطاً لاختصاص المحاكـم المصـرية بنظر الدعوى، فإن ذلك لا يؤثر على كون قواعد الاختصاص الدولي من النظام العام، إذ إنه لم يمس هذه القـواعد ولم يجز الاتفاق على مخالفـتها وإنمـا أضاف ضابطاً جديداً إلى ضوابط اختصاص المحـاكم المـصرية بـقصد توسيع نطاق ولايتها، وهو مقصور على قبول الأجنبي لولاية المحاكم المصرية صراحة أو ضمناً، ولا يمتد إلى استبعاد اختصاصها إذا كانت هي المختصة وفقاً للقواعد سالفة البيان.
ويخالف هذا الحكم ما قضت به محكمة النقض من جواز الاتفاق على سلب الاختصاص القضائي للمحاكم المصرية، فقضت في الطعن رقم 15807 لسنة 80ق، جلسة 24 مارس 2014 بأن "النص في المادة 32 من قانون المرافعات على أن " تختص محاكم الجمهورية بالفصل في الدعوى ولو لم تكن داخلة في اختصاصها طبقا للمواد السابقة إذا قبل الخصم ولايتها صراحة أو ضمنا " مفاده أن المشرع أضاف لحالات ضوابط اختصاص المحاكم المصرية بنظر الدعاوى، ضابطا آخر هو" ضابط إرادة الخصوم " ذلك عندما يتفقون صراحة أو ضمنا على قبول ولاية القضاء المصري لنظر النزاع حال أن النزاع غير خاضع في الأصل لاختصاص محاكمها وفقا للضوابط الواردة على سبيل الحصر في المواد من 28 وحتى 31 من القانون السالف، وهو المعروف " بالخضوع الاختياري للقضاء الوطني "، إلا أن المشرع لم يواجه أثر الاتفاق السالب للاختصاص عندما يتفق الأطراف على الخضوع اختياريا لقضاء دولة أجنبية رغم اختصاص المحاكم الوطنية بالنزاع، وهو ما يؤدى إلى تخلى هذه المحاكم عن نظر الدعوى. إلا أن هذا السكوت لا يمكن اعتباره رفضاً من المشرع وتمسكه باختصاص المحاكم الوطنية، ذلك أن المشرع المصري سبق وأن أخذ بمبدأ قبول التخلي عن اختصاص محاكمه - للدعاوى التي تدخل في اختصاصها وفقا لضوابط الاختصاص المنصوص عليها بقانون المرافعات - في حالة اتفاق الأطراف على التحكيم سواءً في مصر أو خارجها والتي يتعين معه أن تقضى المحكمة بعدم قبول الدعوى لسابقة الاتفاق على التحكيم...." "
والذي يظهر من مراجعة الحجج التي وردت في الأحكام السابقة صحة القول بعدم تعلق الاختصاص الدولي للمحاكم المصرية بالنظام العام بشكل مطلق. إذ أن المادة (32) من قانون المرافعات أخذت بإرادة الأطراف لنزع اختصاص المحاكم الأجنبية لصالح المحاكم المصرية سواء كانت هذه الإرادة صريحة أو ضمنية وكذلك نزع الاختصاص من المحاكم المصرية في حالة اتفاق أطراف النزاع على اللجوء للتحكيم. فالقول بعدم جواز سلب اختصاص القضاء المصري لصالح قضاء أجنبي لذات السبب – وهو إرادة الأطراف – قد يكون قول محل نظر ويحتاج إلى تدخل تشريعي لإزالة أي لبس أو غموض في هذا الشأن تشجيعا للاستثمار والنمو الاقتصادي.
([1]) د. هشام خالد، قواعد الاختصاص القضائي الدولي وتعلقها بالنظام العام دراسة مقارنة في قوانين مصر والامارات والبحرين، منشأة المعارف، ط 2000، ص 60 وما بعدها.
(2) د. هشام خالد، المرجع السابق ص 91.
(3) د. أبو العلا النمر، الاختصاص القضائي الدولي وتنفيذ الأحكام الأجنبية وأحكام التحكيم في مصر، دار النهضة العربية، الطبعة الرابعة، ص 104.
(4) د. أحمد عبد الكريم سلامة، مختصر قانون العلاقات الخاصة الدولية، دار النهضة العربية، ص 94.
(5) د. تنص المادة 32 من قانون المرافعات على أن (تختص محاكم الجمهورية بالفصل في الدعوى ولو لم تكن داخلة في اختصاصها طبقا للمواد السابقة إذا قبل الخصم ولايتها صراحة أو ضمناً.)
لمزيد من المعلومات،يرجى الاتصال عبد الرحمن جمعة
تم النشر في أيلول 2024