آفاق التمويل المستدام والأخضر في منطقة الشرق الأوسط
ماثيو هيتونشريك، رئيس المكتب والخدمات المصرفية والمالية - قطر
كاماريا اليعجوبيمحامي المعرفة
الترجمة مقدمة من فنسنت بيرسيفال
يُعدّ التمويل الأخضر آلية مبتكرة لتمويل المشروعات والأنشطة ذات الأثر الإيجابي على البيئة والمجتمع. ويشهد هذا المفهوم انتشاراً متزايداً على المستوى العالمي مع سعي الأفراد والمؤسسات والحكومات إلى إيجاد حلول فعّالة لمواجهة التغيّر المناخي وتعزيز الاستدامة. وتمتلك منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما دول مجلس التعاون الخليجي، فرصاً واعدة للاستفادة من التمويل الأخضر والحد من اعتمادها على الوقود الأحفوري.
مزايا التمويل الأخضر في الشرق الأوسط تتمتع منطقة الشرق الأوسط بمقومات عديدة تؤهلها للريادة في مجال التمويل الأخضر:
وفرة مصادر الطاقة المتجددة: تزخر المنطقة بموارد هائلة من الطاقة المتجددة، خاصة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. وتُعد مشاريع مثل مجمع محمد بن راشد آل مكتوم للطاقة الشمسية في دبي ومشروع نور أبوظبي للطاقة الشمسية نماذج رائدة في استثمار هذه الموارد.
نجاح نماذج التمويل الخاص: تمتلك المنطقة سجلاً حافلاً في مجال مشاريع توليد الطاقة الممولة من القطاع الخاص، مما يمكن تطبيقه بنجاح في مجال التمويل الأخضر.
قوة التمويل الإسلامي: يتناغم قطاع التمويل الإسلامي المتطور في المنطقة مع مبادئ التمويل الأخضر، مما يعزز الثقة ويرسخ معايير الحوكمة.
تنامي الطلب على الاستدامة: يتزايد الطلب على المنتجات والخدمات المستدامة، مدفوعاً بالتركيبة السكانية الشابة والحضرية، والسياسات الحكومية الداعمة، والتوجهات العالمية.
ومن المتوقع أن يكون للتمويل الأخضر أثر اقتصادي كبير، حيث قد تساهم الاستثمارات الخضراء في القطاعات الرئيسية بدول مجلس التعاون الخليجي بما يصل إلى 2 تريليون دولار في الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030، مع إمكانية توفير ما يزيد عن مليون وظيفة وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تنشدها دول المنطقة.
التطورات الأخيرة شهد التمويل الأخضر في الشرق الأوسط تطورات ملحوظة:
إصدار السندات الخضراء: أصدرت المنطقة في عام 2024 سندات خضراء بقيمة 16.7 مليار دولار، بقيادة دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. وتُوجَّه هذه السندات لتمويل مشاريع الطاقة المتجددة، وترشيد استهلاك المياه، ومشاريع البنية التحتية المستدامة.
تعزيز التزامات التمويل الأخضر: تعهدت المؤسسات المالية الإماراتية بتخصيص تريليون درهم للتمويل المستدام بحلول عام 2030، انسجاماً مع الأهداف المناخية للدولة. كما يتزايد توجه البنوك والصناديق والمستثمرين نحو التمويل المستدام، مما يوسع آفاق الفرص أمام المقترضين والمقرضين.
المبادرات السعودية الرائدة: تقود المملكة العربية السعودية مشاريع خضراء طموحة مثل مدينة نيوم والسياحة المستدامة في الأحساء، دعماً لأهداف رؤية 2030 في تنويع الاقتصاد.
التحديات لتحقيق الاستفادة المثلى من التمويل الأخضر، يتعين على حكومات دول مجلس التعاون الخليجي معالجة تحديات رئيسية:
تطوير الإطار التنظيمي: وضع تشريعات واضحة ومتسقة للتمويل الأخضر لتعزيز ثقة المستثمرين.
تعزيز أسواق رأس المال: تطوير وتعميق أسواق رأس المال لتوسيع نطاق وتنوع خيارات التمويل الأخضر.
ترسيخ الشفافية: تعزيز آليات الشفافية والمساءلة لمنع الغسيل الأخضر وبناء الثقة في السوق.
الأولويات الاستراتيجية لتسريع وتيرة التمويل الأخضر، ينبغي على حكومات دول مجلس التعاون الخليجي التركيز على أربع أولويات استراتيجية:
تعزيز الاستدامة البيئية: تبني سياسات محفزة وداعمة للمشاريع والأنشطة الخضراء، مثل آليات تسعير الكربون، والحوافز المالية، والمعايير التنظيمية، والمستهدفات الاستراتيجية. وتمثل استراتيجية دولة الإمارات العربية المتحدة للطاقة 2050 نموذجاً طموحاً في هذا الإطار، حيث تستهدف رفع مساهمة الطاقة النظيفة إلى 50٪ من مزيج الطاقة بحلول عام 2050. كما يتعين إلغاء منظومة الدعم غير المستدام للوقود الأحفوري والمياه بشكل تدريجي، نظراً لتأثيراتها السلبية على كفاءة الأسواق وتشجيعها لأنماط الاستهلاك غير الرشيد. وفي هذا السياق، قامت سلطة دبي للخدمات المالية بإصدار مبادئها التوجيهية لأفضل ممارسات السندات الخضراء لتوفير الإطار التنظيمي والإرشادات اللازمة للإصدارات الخضراء في أسواق رأس المال.
إنشاء صندوق ثروة سيادي أخضر: إنشاء كيان متخصص يضطلع بدور الشريك الاستراتيجي الموثوق والمحفز للمستثمرين من القطاعين الخاص والدولي، بحيث يتولى توفير رأس المال التأسيسي، وتقديم الضمانات، ومنح الاعتمادات للمشروعات والمبادرات الخضراء. وينبغي على هذا الكيان تحقيق الموازنة المثلى بين المردود البيئي والكفاءة المالية وإدارة المخاطر، مع تعظيم الاستفادة من المزايا التنافسية التي تتمتع بها المنطقة في قطاعي الطاقة المتجددة والتمويل الإسلامي. وتُظهر التجارب العملية أن البنوك الخضراء المملوكة للحكومات تمتلك القدرة على استقطاب استثمارات ضخمة من القطاع الخاص، مما يؤدي إلى مضاعفة حجم الاستثمار الحكومي الأولي بشكل ملحوظ. وفي هذا السياق، فقد أسهمت إصدارات الصكوك الخضراء الأخيرة في إحداث نقلة نوعية في مجال التمويل المستدام بالمنطقة، ومع توجه المزيد من الجهات المُصدرة نحو تطوير أطر تمويلية تتوافق مع معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، تبدو الآفاق المستقبلية للصكوك المستدامة في المنطقة واعدة. وتجدر الإشارة إلى أن حجم إصدارات السندات الخضراء في المنطقة قد بلغ 16.7 مليار دولار أمريكي خلال عام 2024، محققاً قفزة نوعية بفضل المبادرات الرائدة لدولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. وتوجه هذه الأدوات التمويلية المبتكرة لدعم مشروعات الطاقة المتجددة، وتعزيز كفاءة استخدام الموارد المائية، وتطوير مشروعات البنية التحتية المستدامة.
تعزيز أسواق رأس المال: فتح وتعميق أسواق رأس المال من خلال خصخصة الأصول، وجذب المستثمرين، وتطوير أدوات التمويل الأخضر مثل السندات الخضراء والصكوك الإسلامية. وفي هذا السياق، قامت سلطة دبي للخدمات المالية بإصدار مبادئها التوجيهية لأفضل ممارسات السندات الخضراء لتوفير الإطار التنظيمي والإرشادات اللازمة للإصدارات الخضراء في أسواق رأس المال. كما يجب تشجيع الابتكار والتعاون بين المؤسسات المالية والهيئات التنظيمية وأصحاب المصلحة لابتكار حلول ومنصات جديدة للتمويل الأخضر. ويمكن لتأسيس أطر عمل مثل أجندة التمويل المستدام لسوق أبوظبي العالمي أن تدعم هذه المبادرات وتعزز تطورها.
تطوير آليات التقارير الموحدة (التصنيفات): تبني وتنفيذ الأطر والمعايير المتناسقة المعترف بها دولياً لقياس وتوثيق الآثار البيئية والاجتماعية للمشروعات والأنشطة الخضراء. وفي هذا الإطار، تقدم مجموعة العمل المعنية بالإفصاحات المالية المتعلقة بالمناخ (TCFD) مبادئ توجيهية لإعداد التقارير الشفافة. كما يجب ضمان دقة وموثوقية البيانات والمعلومات المقدمة، وتعزيز الوعي والمعرفة لدى المشاركين في السوق والمجتمع. ويعد استخدام الأطر التي تحدد بوضوح الأنشطة التمويلية المستدامة المعتمدة لدى المؤسسات أداة رئيسية لمكافحة الغسيل الأخضر وتحقيق أهداف التنمية المستدامة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
خاتمة في ظل تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، يواجه المستثمرون معضلة قبول عوائد أقل مقابل دعم المشاريع المستدامة، وهو ما يُعرف بـ "العلاوة الخضراء". كما تواجه دول مجلس التعاون الخليجي تحديات مماثلة لنظيراتها العالمية في مجال التمويل المستدام، من حيث غياب التصنيفات العالمية الموحدة، ومخاطر "الغسيل الأخضر" (الادعاء بالاستدامة في حين أن الواقع الفعلي أقل إقناعاً)، وتحفظ المستثمرين تجاه المخاطر.
غير أن تنفيذ هذه الأولويات الاستراتيجية، خاصة في ضوء الالتزامات والمناقشات المنبثقة عن مؤتمر COP28، يضع دول مجلس التعاون الخليجي على مسار الريادة الإقليمية والعالمية في مجال التمويل المستدام. ولن يقتصر أثر هذا التحول على تعزيز التنوع الاقتصادي والمرونة فحسب، بل سيمتد ليشمل تحسين الرفاهية الاجتماعية والبيئية، والمساهمة في تحقيق الأهداف العالمية للعمل المناخي والتنمية المستدامة.